في هذه السلسلة من المقابلات، نلتقي بالمرشحين النهائيين لجائزة محمد مكية للشخصية المعمارية الشرق أوسطية لعام 2024، الذين لعبوا أدوارًا بارزة في تطور العمارة والبيئة العمرانية في المنطقة.
أُطلقت جائزة محمد مكية عام 2014، وتُمنح كل سنتين للأفراد أو المؤسسات الذين ساهموا في الترويج، التشجيع، والتوعية، وكان لهم تأثير مباشر أو غير مباشر على تطور العمارة والبيئة العمرانية في الشرق الأوسط خلال فترة محددة.
في هذه المقابلة، ينضم إلينا المعماري جورج عربيد، الذي تولّى مراكز تعليمية في عدة جامعات لبنانية، وشارك في هيئات تحكيم دولية، كما أسس المركز العربي للعمارة عام 2008، والذي يديره حتى اليوم. سيحدثنا جورج عن تجربته الأكاديمية والمهنية، وعن مشاركته في تعزيز الوعي العربي والعالمي حول العمارة الحديثة.
نبذة شخصية مختصرة عنكم ومركزكم
جورج عربيد معماري تولّى مراكز تعليمية وأكاديمية متعاقبة في كل من: الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة، الجامعة الأميركية في بيروت، والجامعة اللبنانية. حاز على دبلوم الدراسات العليا في العمارة من الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة، وعلى منحة فولبرايت Fullbright كباحثٍ زائر في برنامج التاريخ والنظريات والنقد بـجامعة ماساتشوستس للتكنولوجيا “أم آي تي”. يحمل شهادة دكتوراه في التصميم من جامعة هارفرد. شارك في هيئات تحكيم عددٍ من المسابقات والجوائز الدولية بينها جائزة الاتحاد الأوروبي للعمارة المعاصرة 2019 – جائزة ميس فان در روه. من أعماله المعمارية المميزة بيت سالم في بطرام وبيت الشاب في بعبدا ودار المعاصر في معاصر الشوف، لبنان.
شارك في إطلاق المركز العربي للعمارة عام 2008 ويتولى إدارته حتى تاريخه.
ماذا يعني لك الوصول للقائمة النهائية لجائزة محمد مكية ؟
يعني القاء الضوء على نشاطاتي وتلك المرتبطة بالمركز العربي للعمارة وتقديرها يعزّز القضية التي نعمل من أجلها ويشارك في تشكيل وعي عربي وعالمي حول عمارتنا الحديثة. مجتمعاتنا العربية ككل المجتمعات في صيرورة دائمة ونحن نعمل لفهم وابراز تطوّر عمارتنا.
الوصول الى القائمة النهائية يعني أيضا أننا نبتعد عن مقولة مؤذية مفادها “نحن التراث وهم الحداثة”. فالحداثة نحن والتراث نحن.
محمد مكية أسس جمعية وكان له دور في مأسسة العمارة ؛ وانت قمت بتأسيس مركز توثيقي فأخبرنا عن أهمية العمل المعماري ضمن مؤسسات مجتمع مدني ؟
صحيح ان لمكية دورا بارزا في مأسسة العمارة عبر برامج التدريس والمشاركة في مجمع ديلوس وانشاء ديوان الكوفة وغيرها من المبادرات وله كل التقدير.
طبعا أدرك مكية أن العمارة ليست مجالاً خاصا بل مجالاً مجتمعياً. ومهما حاولت المؤسسات الرسمية تنشيط التميّز المعماري وتوثيق العمارة فهي ستكون مقصّرة او منشغلة بنشر ما يناسبها. وبالتالي تكمن أهمية جمعيات المجتمع المدني في حريّتها في التحرك و تعدّد نشاطات عملها والتفاعل مع مجتمعها.
وتستطيع مؤسسات المجتمع المدني أن تملأ فراغات لا تغطّيها مؤسسات رسمية من وزارات وإدارات، أو دور تعليمية كبرامج العمارة في الجامعات، أو مؤسسات مهنية كالنقابات.
الكثيرون يرون الحداثة مرضا اصاب بلداننا والنظرة اليه سلبيه خصوصا عند التراثيين فلماذا تسعى إلى توثيقها ؟
هذا تبسيط يُشكّل أذيّة لمقاربة العمارة والعمران. لا أدري اذا من نسمّيهم تراثيين هم مثلا ممن هدموا أحياء ومبانٍ حديثة لإنشاء مكانها مسخ للمباني التراثية لا تمتّ لحال الزمان والمكان بصلة.
لماذا التوثيق؟ لتمكين المعرفة والوصول الى حقيقة الواقع واستشعار المستقبل.
في ما يخص نظرية وعمارة مكية مثلا، صحيح أن جيل محمد مكية ورفعة الجادرجي واجه معضلة التوفيق بين عناصر التصميم التراثية والحداثة. أما جيلنا فهو ينظر الى الموضوع كغنىً لا كمعضلة. وأصبح لدينا عدد وافر من الأمثلة التي تدل على ذلك، منها ما يتضمن اشارات بديهية الى الهوية التراثية، ومنها، وبنظري هي الأفضل، ما يدع ظروف التصميم تُنتج الهوية التي تكون جيّدة بقدر ما تلائم الزمان والمكان. نتكلّم اذا هنا عن هوية متحرّكة.
عملكم لم يكن مقتصرا على لبنان فحسب وانما لكم تواجد في الوطن العربي فحدثنا عن امتداد تأثير المركز على الجغرافيا العربية ؟
في العالم العربي مخزون غني لتجارب معمارية مُحدثة، وتتعدى غالباً هذه التجارب الحدود بسبب التفاعلات الناتجة عن تواصل الأشخاص والشعوب والأفكار والتقنيات. ومقاربتنا للحداثة لا تخضع لأصولية محلية ضيّقة تنحصر في حدود الدولة، ولا تستسلم لحتمية عالمية لا تعترف بخصوصيات الأمكنة. ولقد أظهرنا في عدّة مناسبات، من خلال معارض وكتب، غنى التجارب المعمارية في العالم العربي.
أول هذه المعارض، معرض “التصميم الحديث والعمارة في العالم العربي: بدايات مشروع”، بيروت، 2013 وغطّى الحداثة في لبنان وسلّط الضوء على مخاطر هدم معالم معمارية مهمّة.
كما نظّمنا مؤتمرين عن التراث الحديث مع مجموعة من المؤسسات التي تعنى بحفظ الصور والأفلام والتسجيلات الموسيقية، أصدرنا بالمناسبة كتاب “راصد التراث الحديث”.
وشمل اهتمامُنا العالم العربي الأوسع من خلال أبحاث عدّة تُوجّت عام 2014 بادارتي مع الزميل برنارد خوري جناح البحرين في معرض بينالي البندقية حيث تعاون مركزنا مع وزارة الثقافة البحرينية وأدرتُ تحرير كتاب “مختارات من عمارة العالم العربي ١٩١٤–٢٠١٤” وُزّعت منه أربعون ألف نسخة وتضمّن مقالات عن كافة أقطار العالم العربي ووثائق تعود لمئة معلم معماري بعضها نُشر للمرة الأولى.
ولقد نظّم المركز العربي للعمارة، بطلب من اليونسكو والمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، معرضًا عنوانه “تراث الحداثات الحضرية والمعمارية في العالم العربي” أقيم في الكويت عام 2015. وتدلّ عبارة حداثات بوضوح إلى تعدّد أوجه الحداثة، وصدر كتيّبٌ للمناسبة. وكان المعرض فرصة للتعاون مع باحثين من العالم العربي أجمع مما جعل مركزنا صلة وصل في ما بينهم.
وعام 2023 أقمتُ بدعوة من تريينالي الشارقة للعمارة معرضًا في الإمارات عنوانه “رحلة في أرشيف العمارة: بيروت، القاهرة، الرباط” تضمّن مجموعات من مركزنا ومن الجامعة الأمريكية بالقاهرة ومن أرشيف المغرب.
إحتوى المعرض على وثائق ورسومات وأنتجنا أيضا مجسّمات لمشاريع لم تُبصر النور أسميتُها “العالم العربي غير المبني” مؤكّدًا على أهمية الوثائق التي تُهدينا الى ما يتخطّى واقعنا وتُشير الى ما كان يمكن أن نكون. وأخرجتُ للمناسبة ثلاثة أفلام وثائقية عُرضت في الشارقة وستُعرض الأسبوع المقبل في مهرجان في القاهرة. وتدلّ الأفلام على خصائص الحداثة من خلال تجوال بين المدن الثلاث وأرشيفها.
يقول الكاتب العراقي علي الوردي ان الحداثة دخلت الينا عبر النفط بينما في أوروبا هي نتاج تطور فكري فهل قدمت الحداثة لمنطقتنا تطويرا كما حصل في السياق الأوروبي ؟
كلام الوردي يعبّر عن جزء من الحقيقة اذ ان العالم العربي الغني بمسارات تاريخية متعددة تأثر بعضه باقتصاد النفط وبعضه بعوامل أخرى.
لا شك ان الحداثة قدّمت تطويرا للعالم العربي وهي من سمات التطوّر الطبيعي للمجتمعات. انا أغالط نظرية سائدة تقول: “نحن التراث وهم الحداثة”.
ولقد أظهرتُ في كتاب “صوغ الحداثة: العمارة في العالم العربي ١٩٤٥-١٩٧٣” الذي صدر سنة ٢٠٢٢ كيف تطوّرت الحداثة المعمارية بالتزامن مع الحداثة الثقافية والفكرية والمجتمعية. ودَعيتُ مع شريكي في التحرير فيليب أوزوالت مجموعةً من الباحثين العرب وغير العرب لمعالجة عشرة معالم طبعَت الفكر المعماري في العالم العربي.
الحداثة انتهت وهي حقبة زمنية ولكن تأثيرها لا زال في كثير من المجالات فهل نستطيع القول انكم ايضا تعملون على تراث بحكم انه مرحلة زمنية سابقة ؟
لا أنظر الى الحداثة كحقبة انتهت انما كسلوك او موقف. طبعاً تأخذ الحداثة أوجهاً متعددة وهي تتعدّى النمط المعماري بل هي إستعداد للخوض في ما هو مناسب وجديد في آن.
ما نسميه تراث هو بالواقع تراكم حداثات متعاقبة وصلت الينا كمخزون ندعوه تراثنا. اذا نظرنا الى تاريخ العمارة من هذه الوجهة فسنجد أن لا تناقد بين التراث والحداثة.
ماذا يستطيع ان يقدم مركزكم للعمارة والوطن العربي ؟
أولا المعرفة وتوسيع حلقة النقاش خارج العالمين البديهيين ألا وهما العالم الأكاديمي من جهة وعالم المهنيين من جهة أُخرى ليشمل المجتمع الأوسع. لدينا أرشيف ومكتبة عامة ونقيم زيارات ميدانية مفتوحة لجميع المهتمين ونقيم ندوات حوارية وورشات عمل للصغار ونشارك في حملات الحفاظ على العمارة. ونطمح الى توسيع حلقة النقاش خارج دوائر المعماريين. من تلك النشاطات مثلًا تنظيم المركز مع بيت الكتّاب سلسلة محاضرات تجمع كتّاباً ومهندسين معماريين لمناقشة تصوّر ونمو وتخطيط المدن في العالم العربي. وجمعت تلك حوارات بين كتّاب الأماكن أي المعماريين والكتّاب عنها.
أنشأنا أيضا قاعدة بيانات مفتوحة للجميع على شبكة الإنترنت تقدّم حتى الآن قريب ألف مبنى وثلاثمئة معماري. أما الكتب فنصدرها دائماَ بلغتين لتصل عمارتنا الى جمهورها بلغتها العربية الأم.
مركزنا له قدرة تحرّك ولقد بادرنا بعد انفجار مرفأ بيروت بالتحفيز على ترميم جيّد للمباني المتضررة من خلال محاضرات للجمعيات وأصدرنا دليلًا للترميم هو عبارة عن إرشادات لفهم المباني المنشأة بين الثلاثينيات والسبعينيات.
وبشكل عام نأمل ان نشارك في نهضة الوطن العربي الفخور بتراثه القديم والحديث معاً.
سلسلة “لقاء المرشحين النهائيين” تقدم مجموعة من المقابلات مع الأفراد الذين وصلوا إلى القائمة القصيرة لجوائزنا. جورج عربيد مرشح لجائزة محمد مكية للشخصية المعمارية الشرق أوسطية لعام 2024، والتي تكرم الأفراد أو المؤسسات الذين ساهموا في الترويج، والتشجيع، وحملات التوعية، وكان لهم تأثير مباشر أو غير مباشر على تطور العمارة والبيئة العمرانية في الشرق الأوسط خلال فترة زمنية محددة.